«في الأفلام الغنائية لا تحدث أشياء فظيعة أبداً»
— من فيلم «الراقصة في الظلام/ Dancer In The Dark»
تمثل الأفلام الموسيقية مصدراً للراحة وتعد من أفلام الشعور الجيد Feel Good لكثير من المتلقين، بخاصة إذا اتسمت تلك الأفلام بتصميم مناظر حافل وملون وفقرات راقصة حماسية، لكن ليست تلك الصيغة الوحيدة للأفلام التي تسمى غنائية/موسيقية أو استعراضية، للفيلم الموسيقي تاريخ طويل يمتد إلى المسرح الإغريقي القديم وربما ما قبله في حضارات أخرى، تداخلت الوسائط في المسرح الإغريقي بين الشعر والغناء والنثر، مما فتح الطريق بعد ذلك أمام المسرح الإيطالي لاستكشاف الغناء والاستعراض في إطار الكوميديا أو ما يسمى كوميديا الفن Commedia Dell'Arte، ثم الأوبرا أحد أشهر صيغ الغناء المسرحي المستمر حتى يومنا هذا، ثم انبثق منها المسرح الغنائي بشكله الحديث، ومع اختراع السينما تسرب المسرح الغنائي إليها، بخاصة في السينما الهوليوودية من بداياتها فور دخول الصوت إليها، يمكن اعتبار إحدى أوائل التجارب الصوتية الأمريكية فيلم «مغني الجاز The Jazz Singer 1927» هو توطئة لطابع غنائي استعراضي سيستمر في شكل السينما التجارية الأمريكية وينتقل إلى سينمات بلدان أخرى بصيغ وأساليب مختلفة.
يستقي الفيلم الغنائي شكله الأساسي من المسرح، بفقرات راقصة مصممة بدقة ووصلات غنائية تحرك الحبة للأمام، لكن الفيلم الغنائي على عكس الأوبرا مثلاً لا يشترط تضمين الغناء بشكل حواري بل يمكن أن يتنوع شكل التعبير والحوار بين كلام ملحن وكلام متحدث، ويمكن في بعض الأفلام أن يضمن الفقرات الموسيقية بشكل منفصل، بحيث تكون فقرات داخلية لها وظيفة سينمائية غير منفصلة عن الشكل الواقعي للغناء، لا يوجد قواعد صارمة لشكل الفيلم الموسيقي، وهو ما يمكن رؤيته بشكل مكثف في السينما المصرية الكلاسيكية في فترة الأربعينيات حتى الستينيات، حيث اندمجت الموسيقى داخل الأفلام ليس بحسب القواعد الموسيقية التقليدية من غناء الممثلين للتعبير عن مشاعرهم ولكن أصبح المطربون ممثلين وأصبحت الأغنيات حتى وإن لم تحرك الحبكة جزءاً رئيسياً من نسيج الأفلام، في ظل ذلك التنوع في تناول الموسيقى والاستعراض داخل الأفلام يمكن النظر إلى مجموعة من الأفلام الموسيقية من مناطق مختلفة وصيغ مختلفة حول العالم تشترك كلها في إدماج الموسيقى داخل نسيجها لكنها تختلف في كيفية فعل ذلك.
The Umbrellas of Cherbourg
صنع المخرج الفرنسي جاك ديمي بعضاً من أشهر الأفلام الغنائية بحجم الأفلام الهوليوودية الضخمة لكن بشكل مفرط في عاطفيته وحساسيته، يعد أشهرها فيلم «مظلات شيربورر the umbrellas of cherbourg 1964» المتمم لثلاثيته التي بدأت بفيلم «لولا Lola» وتوسطها فيلم غنائي آخر هو «فتيات روشفور The Young girls of Rochefort»، في مظلات شيربور يتبنى ديمي شكل أقرب للأوبرا من المسرح الغنائي، حيث لا كلمة تخرج من أفواه الممثلين غير مغناة، كل الحوار يحدث بشكل ملحن وكأن العالم كله مكان للأداء والاستعراض، لكنه يتبنى جماليات بصرية هوليوودية بجانب المفهوم الأوبرالي لشكل الحوار. قصة شيربور هي قصة حب لا يكتب لأبطالها اختبارها، قصة حزينة عن الحب الفتي والأقدار وحتمية الفراق، لكن ثقل انكسار القلب يحدث على خلفية بعض من أجمل التصميمات والخيارات اللونية التي ظهرت على شاشة السينما على الإطلاق، في فيلم ديمي كل شيء منسق مسبقاً لكنه لا يبدو مدعياً أو مزيفاً، إنه مزيج غريب من العفوية والقصدية، بما في ذلك الأغنيات التي تتعالى مع المشاهد الثقيلة عاطفياً وتتراقص مع مشاهد الحب الذي يتفتح، يصعب اعتبار مظلات شيربور فيلم شعور جيداً لكنه بلا شك تجربة مشبعة بصرياً وسمعياً تعود لها مهما باغتتك قسوتها.
لدى المخرج بوب فوسي تاريخ من العمل في المسرح الموسيقي، وأفلام معدودة لاسيما منها فيلمه الحائز على جوائز عديدة «كباريه Cabaret» الصادر عام 1972 الذي يمكن وصفه بالموسيقى على الرغم من عدم تضمنه حوارات مغناه فقط فواصل موسيقية مدمجة في نسيج الفيلم، لكن على رغم قلة الأعمال السينمائية فإن فيلمه «كل شيء آخر All that Jazz 1972» يعد من أنجح وأشهر الأفلام الموسيقية والاستعراضية في التاريخ الهوليوودي الحديث، ذلك الفيلم الذي يخرج ما هو شخصي إلى المجال العام ويمتلئ بعدد ضخم من الفقرات الغنائية والراقصة داخل سياق الأحداث وخارجها أصبح أيقونة في العوالم الغنائية بتصميم رقصات معقد ومحكم وأغنيات ساخرة وأخرى صادقة تؤطر حياة فنان يكره نفسه ويعشقها في الآن ذاته، يفعل الفيلم شكله الغنائي عن طريق التعبير المباشر بجانب الاستعراضات الداخلية، ليروي قصة شخصية عن رجل يعد الاستعراض حياته، ويهب حياته بالكامل لعوالم المسرح ويتخيل موته داخل تلك العوالم كذلك، في مرثية احتفالية لا تشبه شيئاً آخر.
يصعب تصنيف أعمال يوسف شاهين بشكل عام، نظراً لطبيعة السينما المصرية النوعية التي قلما يحيد عنها أي فيلم، فيلم مثل «عودة الابن الضال» 1976 ينطبق عليه بعض سمات الفيلم الغنائي، في مواضع يغني بها الأبطال للتعبير عن أنفسهم أو ينضمون فجأة إلى رقصة جماعية غنائية، هو أقرب لملحمة غنائية يتخللها كورال وأغنيات وصيغة سائلة عصية على التصنيف، يعمل «عودة الابن الضال» في إطار تراجيدي بالكامل حيث نهايات انفجارية مهزومة وغموض مستقبلي، يدور حول عائلة مصرية في سنوات ما بعد الهزيمة تحاول إيجاد نفسها في إطار محلي أو تهرب من واقعها، ووسط كل ذلك يغني أفرادها للمستقبل والماضي، يتخلل السرد رقص وغناء بشكل متحرر من القواعد الفيلمية ينتج عنه مشاهد أيقونية وأغنيات يصعب نسيانها بصوت ماجدة الرومي الوافدة حديثاً، بجانب الغناء التعبيري غير المحترف للممثلين مما يجعل الغناء صيغة تعبيرية ربما أكثر تأثيراً من الاستماع لمطربين حقيقيين.
يعد «قبعة عالية Top Hat 1935» من أفلام فترة الأفلام الغنائية الأولى في هوليوود، بخاصة تلك التي قاد بطولتها أشهر من مارس الرقص النقري على الشاشة فريد استير بمشاركة جنجر روجرز، فيلم «قبعة عالية» يتبع حبكة من أبسط ما يكون، حبكة رومانسية كوميدية كلاسيكية، إذ يحدث سوء تفاهم ضخم بين بطل وبطلة يجعلهما يدوران في حلقات مفرغة من الكر والفر والحب والكراهية، لكن ما يجعل الفيلم استثنائياً هو صيغته كفيلم غنائي راقص، يغني أبطاله للتعبير عن أفكارهم ويرقصون للتعبير عن مشاعرهم، يقع جيري (إستير) في حب ديل (روجرز) ونعرف أنها بدأت في الميل له بعد فقرة طويلة من الرقص النقري الثنائي، يكفي التعبير الجسدي لصناعة بداية ووسط ونهاية لمشهد واحد في لقطة بعيدة تظهر تلك الأجساد في حالة حركة، من دون حاجة لاعترافات كلامية أو بناء درامي تقليدي، يصلح قبعة عالية للمشاهدة لتحسين الحالة المزاجية فهو فيلم لا يأخذ الحياة بجدية لكنه يأخذ حرفته بكل جدية.
يمكن بشكل فضفاض وصف بعض الأفلام الموسيقية بأنها تنتمي إلى ما بعد الحداثة الغنائية، تهدم ثوابت النوع قبلها وتقلب سماته عن عمد أو تستقي من كل الأفلام سمات شكلية لتصنع هجيناً بصرياً وسمعياً في أطر أكثر معاصرة، من تلك الأفلام فيلم المخرج الدنماركي لارس فون ترير «الراقصة في الظلام 2000 dancer in the dark»، الذي يقايض البزخ الإنتاجي للأفلام الغنائية بإنتاج محدود بميزانية محدودة وجودة بصريات منخفضة لكنه يبقي على شكل الفيلم الموسيقي بفقرات راقصة وأغنيات تخدم نسيج قصته، لكنه ينزع عنها كل علامات الأمل والبهجة ويصيغ قصة من أتعس ما يكون لامرأة تصدق في النهايات السعيدة وتذهب للسينما لمشاهدة أفلام فريد إستير بما تبقى من بصرها، بالنسبة لها لا يوجد شيء فظيع أن يحدث في الأفلام الغنائية، لكن في حياتها كل الفظائع يمكن أن تحدث.
مقتبس من مسرحية غنائية لجيروم روبرتس وموسيقى لينارد برينستين بالاسم نفسه، قصة «الحي الغربي west side story» هي أحد أشهر الأعمال الغنائية الاستعراضية، بأغنيات أصبحت منفصلة عن سياقها الأصلي مثل «في مكان ما somewhere»، كما أنه يعد معالجة حديثة لواحدة من أشهر قصص الحب الأدبية «روميو وجولييت» لويليام شكسبير، تنتقل من إيطاليا إلى أمريكا في صراع بين عصابتين وقصة حب بين شاب وفتاة كل يأتي من عالم مختلف، ومن خلال ذلك يخاطب قضايا آنية وقتها ولم تصبح ماضية بعد مثل العنصرية ضد المهاجرين، في هذه الحالة المهاجرين اللاتينيين، في نسخة الفيلم الصادرة عام 1961 نرى وصلات الرقص الشهيرة من حروب العصابات على إيقاع موسيقى الجاز والرقصات الرومانسية في الحفلات الساهرة، يحتضن الفيلم ميلودراما المسرح الموسيقي، بمشاعر مكثفة ووصلات غنائية مؤثرة، وفي نسخته الأحدث عام 2021 التي تحتفظ بالزمان والمكان لكن تجدد من عملية تسكين الأدوار بممثلين من أصول عرقية متنوعة ينقل ستيفن سبيلبرج الأجواء نفسها ويستعرض نفسه سينمائياً بلقطات طويلة غير مقطوعة لمشاهد الاستعراض بينما يستعرض الراقصون والممثلون إمكانياتهم الجسدية والصوتية.
يمكن اعتباره الفيلم الأشهر في نوعه، «الغناء في المطر singin' in the rain 1952» هو إحدى أيقونات السينما الهوليوودية الشعبية، فيلم غنائي عن الأفلام الغنائية، عن زوال الصمت من السينما وعن الصوت والحركة، وكل ما يترتب عليهما، يمكن النظر إلى الفيلم باعتباره فيلماً يؤرخ للانتقال من السينما الصامتة إلى المتكلمة وباعتباره فيلماً للشعور الجيد فهو كوميدي وخفيف ومليء بالاستعراضات الراقصة والأغنيات الثابتة في الأذهان والمشاهد الرومانسية خفيفة الظل، في الرقص في المطر عشرات الأغنيات المتتابعة والاستعراضات الضخمة بمئات المجاميع، سواء حركت تلك الفقرات الحبكة أو لا، في فيلم مثل ذلك المشهدية تحكم، وعرض إمكانيات الجسد الإنساني والوسيط السينمائي هو الأولوية الأساسية، لكنه كذلك مصدر إلهام وتأثير مستمر بشكل يصعب إيقافه، أغنية «أغني تحت المطر» نفسها تم استعارتها وإعادة تقديمها أو صنع بارودي محاكاة ساخرة منها أو استخدام حركات جين كيلي بها في عشرات الأفلام حتى يومنا هذا.
«لا لا لاند la la land 2016» هو فيلم كبير إنتاجياً وذو شعبية واسعة ربما لا يضاهيها أي فيلم آخر في الـ10 سنوات الأخيرة بخاصة في فئة الرومانسي أو الغنائي الذي لم يعد نوعاً أساسياً في السينما التجارية الأمريكية، في «لا لا لاند la la land» يتعامل داميان شازيل مع تاريخ وإرث الغناء والرقص والسينما الأمريكية كمرجع فضفاض يستقي منه ويضيف عليه، يمكن رؤية قبعة عالية في مشهد الرقص النقري وقت الغروب، والرقص في المطر في التفاف ريان جوسلينج جول عمود الإنارة، كل تلك الإيماءات تحدث في مساحة زمنية معاصرة لكنها متوقفة بالزمن في الوقت نفسه، أزياء الأبطال ذات طابع محايد لكنها تصلح للارتداء عام 1952 و2016 في الوقت نفسه، ذلك المزيج بين النوستالجيا والآنية، التضاد بين استخدام الهواتف المحمولة ووصلات الرقص في الشوارع جعلت «لا لا لاند la la land» فيلماً للشعور الجيد والنظر على عقود من الإرث السينمائي بشكل مكثف.
صنع علي رضا أحد مؤسسي فرقة رضا للرقص الشعبي ثلاثة أفلام سينمائية أشهرها «غرام في الكرنك» 1967 الذي وعلى الرغم من عدم تفوقه بشكل سينمائي أو سردي فإنه أحد الأفلام المصرية القليلة التي تدمج الشكل الاستعراضي بالغنائي وتعمل بتقاليد وشكل الأفلام الغنائية التي تدمج الغناء بالحبكة الأساسية للفيلم بشكل داخلي، يحتل الشاشة في «غرام في الكرنك» أعداد كبيرة من راقصي فرقة رضا في حركة دائمة، واستعداد دائم لخلق ديناميكية إذ لا يوجد إطار ثابت، ويقوم بدور البطولة محمود رضا قائد الفرقة وفريدة فهمي الراقصة الأساسية بها وزوجة محمود رضا في أداءات تمثيلية متوسطة يجعلها مزيج الغناء والرقص والكيمياء الحقيقية بين الزوجين مؤثرة ودافئة، يحوي الفيلم بعضاً من أشهر أغنيات السينما المصرية مثل الأقصر بلدنا وحلاوة شمسنا، ويعمل بشكل فعال كفيلم للشعور الجيد ومشاهدة مشاهد متقنة التصميم والتنفيذ مثل مشهد حوار حركي بين المعاصر والعتيق في رقص محمود رضا الباليه متحركاً داخل معبد الكرنك بحرية تجعل الأثر متجدداً ودائم الحضور.
صنع العصر الذهبي للسينما المصرية نوعاً خاصاً به، لم يرقص المطربون ويغنون في الوقت ذاته مثل فريد إستير أو جين كيلي، لكن تم خلق شكل غنائي ليس بالضرورة استعراضياً إلا من الاستعراضات خلف المطربين أو الرقص الشرقي، يصعب تصنيف الأفلام المصرية التي يقوم ببطولتها مطربون مثل عبدالحليم حافظ أو فريد الأطرش، فهي تتنقل بين الأغنيات كفواصل بين الأحداث أو تدرج الأغنيات داخل الأحداث وحيوات الأبطال، يمثل فيلم «معبودة الجماهير» 1967 مثال على تلك النوع الفيلمي الهجين، في قصة ميلودرامية ملونة وغنية من بطولة مطربين بالغي الشعبية والموهبة عبدالحليم حافظ وشادية، ويتأرجح بين التراجيدية والرومانسية، يعبر الحبيبان عن حبهما في فقرة غنائية مضمنة داخل الأحداث بأغنية حاجة غريبة التي تشركهما في حوار ثنائي عن جمال الحياة وهما برفقة بعضهما البعض، وفي مواضع أخرى تصبح الأغنية جزءاً من وظيفة البطل فهو مطرب داخل الفيلم يغني على مسارح العالم، يمثل «معبودة الجماهير» مزيجاً بين الفيلم الغنائي والفيلم الموسيقي المصري ويمد مشاهديه بتصميم مناظر ضخم وكلاسيكي وألوان غنية وحبكة رومانسية بنهاية سعيدة وبعض من أشهر أغنيات بطله.
# سينما عالمية # أفلام أجنبية # أفلام مصرية # موسيقى # فن # سينما